- 1- جغرافية الذات
- 2- تازاخت.. الهرم المنسي
- 3- مدرسة “جنا” و”مولاي” المركزية
- 4- دفء الاسفنج … دفء النكت
- 5- شيطنة طفولية على ضفاف درعة
- 6- أقران “كانتينة”
- 7- عوالم المحاكاة وفسحة الخيال
1- جغرافية الذات
كما هي مدخل للرمل والنخيل والحجارة، هي مدخل للبساطة والذكرى والإثارة، كانت ورزازات ولازالت ذلك الفضاء الذي تنطلق منه عوالم الإيحاء والذاكرة، أما الزمان فهو أوائل الستينيات إلى حدود نهاية السبعينيات.
ورزازات أنثى بثائها وبرموز أبجديتها، هي فروج وشعاب، تلالها نهود فتيات في سن السحر والجمال، هي قلعة منسية في بحر التهميش وقناع اللامركزية، نكرة تبحث عن هويتها في حروف الهجاء، مبعثرة الروح، شاردة في اللامتناهي، هائمة في سكونها بين تلال وجبال، في شمس وصقيع ورياح.
ورزازات وطن ينمو في الحب جذورا وفي القلب عروقا، نهر لتاريخ منسي ومهمل لم تعره المسؤولية صفاءه وبياضه، الماضي فيها عند عشاقها لآزال أفقا لصيقا بالمشاعر والأحاسيس والرؤى، شقيقا للحنين والذكريات والفداء. الإنسان فيها أيام زمان، يتطلع إلى الأفق فتحسبه يبالي لكنه في العمق والواقع لا يبالي، عنده المسافات تتشابه، والأيام تتمايل وتتقاطع، كالساعات والدقائق، فهو مسافر سرمدي بطموحاته وآماله كأحلام غالبا ما تذوب في غياهب عوالم النسيان.
ورزازات حروف سبعة من إيحاء مبدع عظيم، دلالاتها تتعالى وتتسامى ذات رمزية، لأبنائها/عشاقها حس يجمعهم بها، وفهم خاص لطبيعة أعماقها:
- الواو: فيها بداية الوئام كما التاء نهاية الكلام، هي وصال سرمدي بين شمس دافئة ربيعا، حارقة صيفا،وبرد لاسع شتاء كعقاربها الحجرية الصفراء، الواو رمز الود والورود والبساطة في الوجود، أهلها والهون بها كالزوار والوافدين.
- الراء: في ورزازات تتنفس الرمال، أرض تتطلع في حلولية إلى بعدها الخامس، تشرئب لليم البعيد والجبل القريب في اتجاه الثلج الأطلسي والأفق اللامتناهي، بقعة تراب تعانق القمرين وتتوحد في الدجى صمتا ومع الهدهد حكمة ومع الغراب حركة وصبرا وصوتا.
- الزاي: في حروفها زمان لكنه مدور بلون أرجواني، قطار يسير ولا يسير، الزاي زوار موسميون من بشر وكائنات وطيور، زوار، مأجورون، موظفين… يظنون في البَدْء انهم عابرون إلا أن عبورهم غالبا ما يتحول عشقا وهياما ثم استقرارا، فالمتحول يصبح ثابتا والثابت لا يتحول إلا ناذرا، الزاي زمهرير تعانقه في الرحلة الورزازية عواصف عجاجية كل المساء، حينئذ يدخل الكل إلى غمده وتبحث كل ذات عن ذاتها، والثمالة تتعالى بسكرها وتتوحد في هذه الأجواء، أما الحمد والشكر فلكل أسلوبه وطريقته في الإفصاح عنه، دون أن يتلاوم الناس فيما بينهم. أو يكفر بعضهم بعضا.
- الزاي في ورزازات زايان اثنان متباعدان غير متعانقين، تكرارهما بالمد الألفي تأكيد للوجود رغم التهميش فالمد إطالة وإسهاب في الإلحاح على رفض إنسان هذا الفضاء لكل جزر واختزال لثقافة متنوعة أمازيغية/عربية تجدرت وتلاقحت في تاريخ هذا الجَنُوب الرائع الجميل.
- الألف في أعماق ذات الحروف السبعة، بداية الامتداد والشموخ، رمز لاستقامة ناسها، نخيل في السماء يتعانق تحبو تحت أقدامه أشجار التين والزيتون والورديات من مشمش ولوز وتفاح. فالإنسان في ورزازات “ألف” تنمو أمامه التلال والجبال وتنبت خلفه الزهور بين الحجارة والرمال.
- التاء في فضائها مبسوطة لكنها غير منبسطة، بلاد أنثى بتائها وأخلاق ساكنتها، باسمها وتموجات منحدراتها، بفروج بين حروفها، هي بصمتها معبد ناء في أرض مهجورة، أحضانها تستدفئ أيام زمان بحطب آت من قبيلة “إكرنان” حين كان البرد في الشتاء لاسعا تبعثه الثلوج البيضاء من الأطلس الكبير رسالة بلسمية لحرارة الصحراء الصيفية.
في فضاء هذه الحروف المتناثرة كبنايات ورزازات وقعت أحداث وحكايات أبطالها شخصيات لكنها ليست كالشخصيات التي اهتمت بها الرسميات، أبطالها على صدورهم أوسمة من نور الذاكرة وعلى أكتافهم نجوم وحجارة تشع بحب الأبرياء وعشق أبناء ورزازات وتقدير رواد مقاهيها و “فنادقها” الحصيرية… هؤلاء الذين صنعوا حقيقة الوقائع والتاريخ، هم أطفال، رجال، نساء، مجانين حكماء انفسهم، غرباء زمانهم/زماننا.
2- تازاخت.. الهرم المنسي
وأنت فوق ربوة مقر عمالة ورزازات، متطلعا إلى المدينة/القرية، يتبدى لك شارع رئيس ويتيم، تعانقه بنايات مع أحياء صغيرة محادية، وفي قفا الربوة، تستمتع بضفتي “درعة”، أطول واد/نهر في المغرب، فضاء موشح بحقول أشجار النخيل والورديات البلدية، الشارع والواد خطان متوازيان لا يلتقيان، إلا انهما يشقان معا تلال وشعاب ورزازات، وغير بعيد عنهما، هناك هَضْبَة مستوية وُظِّفت لنزول وإقلاع الطائرات الصغيرة الخاصة، سميت “المطار”. وفى أفقه ومن ورائه، تتراءى لك بشكل ضبابي وأحيانا سرابي تلة عظيمة شاهقة ممتدة، إنها “تازاخت”، اسم انتقل من جيل إلى آخر في تلك الأعوام، ولم يكن شهر رمضان بالنسبة لنا كأطفال يافعين، يقترن بالصوم وشعائر العبادة والصلاة، أكثر من اقترانه بمغامرة زيارة فضاء غريب ومجهول، لا يكتمل الصوم أو هذا الشهر؛ إلا وقد زرنا “تازاخت” مرة أو مرات… كانت فضاء للمغامرة والسؤال، ف”تازاخت “مجهولة لدينا، اختلفت حولها الإجابات والفرضيات، كان مجرد النطق باسمها يحرك فينا العقل والمخيلة والإحساس، خصوص وأن قدراتنا بسيطة بساطة الطفولة والثقافة السائدة آنذاك، زيارتها عندنا كانت بدافع امتحان الذات واقتحام المجهول، لذلك كان الاستعداد للرحلة إليها محكما وكبيرا، يحتاج إلى تنسيق واستراتيجية يتمان عبر اتفاق وتواصل ليس بين قرين أو قرينين، بل مع أقران، فالمكان في غير شهر الغفران، مسكون بسكينة وسكون، مفعم بالجن والعفاريت والأرواح. كان هذا الاعتقاد سائدا بين الأنداد متداولا لدى العامة في ورزازات.
يتم الاتصال ويعقد الاتفاق… تبدأ رحلة الأقدام بنعال بلاستيكية متينة البنيان، تعبر الوادي، تتجاوز الصخور والتلال، تدوس نبات الحرمل، تقلب الحجارة، تجمع العقارب الصفراء، تحتضن أفق “الواد المالح” اللامتناهي، ها نحن نقترب من “تازاخت” من قدمها، نستنشق صمتها ونتحسس رهبتها، كان الخوف ينتابنا، فنتظاهر بالشجاعة قبل أن نصل إلى غايتنا : “تازاخت” مغارة، هرم منسي عمقا ومسافة، قبل بَدْء الدخول، ننحني بإجلال، نركع…كان باب المغارة عبارة عن شق أفقي منبسط، كنا ننبطح للدخول منه فرادى، ليتقبلنا هذا العالم الرهيب، نتحول زواحف فنزحف، فتَحْتَكُّ مسامنا بالتراب والحصى قليلا قليلا، نتجاوز “إمي نتازاخت” أي فم تازاخت
إلى بلعومها، كنا بولوجه نغامر، فنشعر برهبة تلبسنا، وهول يحتوينا، نتقدم في الصدع، نتحمس، نتشجع… نبدأ التسلق في البلعوم، سفر في حلكة السواد، وسكون مخيف تكسره أصوات وهمهمات الأقران وهم صاعدون في شكل سلسلة عمودية، بصيص شعاع يخترق سواد جفوننا من عل، ينفذ إلى الأفئدة يزرع الأمل، البصيص ينمو، يتحول الضوء خافتا منسلا فيوجهنا، ها نحن قد وصلنا قلب المغارة، سراديب رطبة ومظلمة، منحوتة بعناية، منتمية لعهود متجذرة في الأرض والتراب، غارقة في أعماق الكون وأنفاس الإنسان البدائي، غرف مطلة على أفق يلفه سراب لا متناه، يلون رؤاه سواد غربان تائهة في سماء مائلة إلى الصفاء.
كان الدخول أو الخروج من رحم “تازاخت” الأسطورية، يعيد كل منا إلى جنينيته وبداية ولادته، كأن الأرض/أمه تعصره اضطرارا بين فخديها قبل خروجه، كأنها تختبر مدى قدرته على المقاومة والتكيف والبقاء في محيطه وبين أنداده وأقرانه، كنا هناك نتصاعد في الدخول للوصول كأوراق نبتة، وفي تدافع كبراعم وردة، كل ذلك بعزم وإصرار حماسيين.
كان حَجُّنا ل”تازاخت” في شهر رمضان عبادة لاشعورية، لكنها موازية لعودة شعائرية إلى الأرض التي تعصر أبداننا الصغيرة، تداعبها بغبارها وبحصاها كلما أتينا إليها، وكلما كنا بين أحضانها، كان الولع بزيارة هذا الفضاء العجائبي قد أبعد عنا نحن أبناء ورزازات الرهبة والخوف من المجاهيل، وصرف عنا الاعتقاد بغير المنطوق والمنطقي، وبغير المرئي والواقعي في كثير من المظاهر والوقائع الحياتية، حتى يومنا هذا.
“تازاخت” كهف أفلاطوني قديم منفتح على مجاهيل الذاكرة، وملجأ لإنسان قديم، تاريخه سفر طويل لفهم كثير من الرموز، وقهر النسيان ومقاومة قصور الذاكرة، فهي صامدة في عمق الإيحاء، الممتد عبر الأزمنة المتوالية في حلولية دائمة مع المحيط والكائنات والموجودات، كلما زرنا هذا الفضاء كان يحاورنا برموزه ودلالاته، بصمته وبصماته… كما انه يداعبنا بغرابته ووحشته، ويستفزنا بأسئلته، ندخل إياه فنتوحد والرهبة والإعجاب، يدخلنا في عالم خارج ذواتنا، الموسوم بطابع شاعري وتشكيل سريالي، غير محدد الوجه والتقاسيم.
باختصار كان اكتشافنا لهذا المكان حضورا في العالم المنسي البدائي، عالم مشاعية وسائل الإنتاج، عالم سادت فيه المساواة لأن كهوف/غرف “تازاخت” متماثلة عرضا وارتفاعا وطولا. هكذا فقد كانت معانقتها لنا تجعلنا كتلة من الأحاسيس والمشاعر العجيبة، استنشقنا بين ذراعيها رائحة الأرض الفردوسية، واحتك إيهابنا بجسدها الهلامي، كاحتكاك ضوئها بظلالها وظلامها، فرغم أنها أسطورية إلا أنها انفتحت على ذواتنا في زمن ليس بزمانها، فمن منا اليوم ومن غيرنا من علماء التاريخ والآثار سينبش في عالم هذا الهرم المنسي؟!!
“تازاخت” مجهولة الزمان معلومة ثابتة في المكان، تحمل في دواخل دهاليزها وأنفاقها أسراراً ضاربة في أعماق التاريخ، ولازالت تثير ألف سؤال وسؤال.
3- مدرسة “جنا” و”مولاي” المركزية
زحف الزمن علينا روتينيا، تتابعت الأيام والسنون، وتوالت الأحداث والوقائع… وبين المَدّ والجزر، والفشل والنجاح… تستمر الحياة وتتواصل رغم انفنا، غير أن الكل يحاول ويحاول تحمل مسؤولياته، ومواجهة الصعاب والمشاق. وإن كنت من ورزازات فلن ينسيك ماسبق صورة المدرسة المركزية وَسَط أرض التلال وملحقتها بحي سيدي داود، مدرسة ستبقى في الذاكرة والوجدان، ستتذكرها وهي محاطة -كما لو أنها محمية- بدور جنود وضابط الجيش الملكي، وعلى مرمى من معسكراته.
كانت المدرسة آنذاك رحبة الصدر، لا عتبة ولا مقياس، فكيفما كان سنك اومستواك، فمقعدك بنتظرك، والمدير”مسيو جنا”Piere Jeanin رفقة مترجمه ومساعده “مولاي” سيستقبلانك… كان المطعم غنيا كتدي الام، كريما كوليمة حاتم، أما الساحة فشاسعة رحبة بنخيل باسق سحوق، وشجيرات توت وتاكوت (الطرف)، وفي الجوانب نباتات وشتلات ترتوي من جدول جار، يشق الساحة شطرين، احدهما به دوحتان وارفتا الظلال، ورتاج كبير لدخول وخروج التلاميذ كان هذا الباب الكبير مفتوحا على الشارع الرئيس في ورزازات، اما الثاني ففيه مدخل لغيرهم وساحة جرداء، تطل عليهما تلة من صلصال. كانت المدرسة بسيطة بساطة شواهد مدرسيها، لكن قيمتها وقيمتهم كانت سامية عالية،كانوا مصابيح نور وإشعاع مخلصين في تدريسهم، متعففين،صارمين بدون قسوة ،أنيقي المظهر والكسوة، عقابهم ضرب رحيم.. لا يسألونك من أنت؟ لكنهم يعرفون من أين وكيف أنت.. مزاجاتهم متباينة وحكاياتهم مع بعضهم ومع التلاميذ لا تخلو من دعابة ومسخرة… فاسألوا زملاءنا: زاكي ودارو وشكودرة.. كنا ندرس ونلعب ونتسلى، لكننا كنا نندمج بدون ان نشعر،ننسج ثوبا باناملنا وبتوجيه معلمينا في منسج نعرف فضاءه وآلياته، ولا نعرف مراميه واهدافه. فيه اكتشفنا الحرف، شكله وطبيعته، ووعينا خلق الكلمة منه، وكيف تتفاعل مع اخواتها في اذهاننا، فنحوله صورا زئبقية جميلة، مفعمة بالمعاني والدلالات الرائعة..
مضت سنون قليلة، فانتقل بعضنا الى ملحقة جديدة وقريبة، فكبر حلمنا، لكنه لم يتجاوز قامة الدركي والشرطي اوالمعلم كمهنة وامنية… كانت مدرستنا من بنين وبنات، متواضعة بسيطة،كل قاعة فيها مؤثتة بها سبورة كبيرة مفتوحة على الأبصار والآفاق، مكتب وطاولات وكراسي من خشب، تفوح منها رائحة العزم وإلاصرار، دفاتر وكراسات، ريشة ومدواة، طباشير وممحاة… عبقها مخلوط بأنفاس مسام الأطفال، عالم شم زكي فواح، لازال حاضرا في الإحساس، لصيقا بخياشيم تلاميذ مركزية ورزازات.
حصة الأناشيد كانت طرفة وسماع، كل منا كان يظن نفسه غريد أقرانه ومطرب زمانه، كل نشيد كان يهز كياننا، يحاور اعماقنا ويجمل اذواقنا.. اما الرياضيات فأهم وسائل الفهم والايضاح، كانت حبات الغلال والخشيبات.. المحادثة حصة أصوات ونبرات متفاوتة، حركات وإشارات متقاربة أو متباعدة، لغة الجسد حاضرة مشاركة، بين السؤال والجواب عيون تبرق محدقة في بعضها وفي وجه رب الفضاء…مواد باللغتين كثيفة ورئيسة، شكلت أسس معارفنا، وقومت افكارنا، وقيمت سلوكنا، بل قاومت اميتنا وجهلنا، فحفظ القرآن كان اساس تهذيب النفوس، فلم ننس ما قاله احد معلمينا رحمهم الله “كلام الله يقوي الإيمان والذاكرة، ويطهر القلوب والافئدة، ويبعد عن قارئه
البلايا، ويقيه من شر الانس والجن”.. كانت تلاوة كتاب الله في الفصول جهرية ، كما لو كنا بها نبعد السوء ونطرد الأرواح الشيطانية عنا، عن مدرستنا والمدينة في فترات الدراسة لا يمر يوم دون ان نسمع دقات الناقوس الحديدي: طاق تيك ..تيك طاق، تكتكات أو طقطقات دقات موسومة في آداننا، لا زلنا نسمعها حتى الآن، بعدها تاتي الحركات هادئة وخفيفة، تتلوها أصوات.. فضجيج يعلو ثم صخب ينتشر طولا وعرضا في الفضاء.. فغبار يتصاعد، يعمنا يداعبنا بذراته السحرية، كانت الساحة ترابية غير مبلطة، لا احد كان يكترث لذلك، فقد الفنا اكثر، تعودنا عواصف وعجاجات مسائيات ورزازات… واقع عصي على التغيير، في مسلسل طويل أبطاله
تلميذات وتلاميذ مجبولين على الحركة، مضطرين على نفظ كل الزوائد العالقة بدواخلهم وابدانهم، نماذج بشرية صغيرة، تختلف قامة وانتماء اجتماعيا، جنسا ولونا… لكنها تشترك في البراءة، حيث شرع المحيط في نحثها على شاكلته، وادخل بعض الرتوشات على صورها وخصائص شخصياتها، هدفه جعلها متشبعة بالقناعة والعزة، والبساطة والارادة الصلبة… خاصيات ومميزات اكتسبها تلامذة المدرسة المركزية فتعممت فاضحت من مميزات ابناء وبنات ورزازات.
4- دفء الاسفنج … دفء النكت
تقدم عمرنا وعمر المدرسة المركزية، فتضاعف عدد من تحتضن من كتاكيتها، فاحتاج هذا الكم الى دراع حاضن آخر، فجاء “سي سالم” من زاكورة لمساعدة “مسيو جانا” و”مولاي”. سواد أضيف الى بياض وسمرة، نفس الخلطة البشرية شكلت كتلة المعلمين والمتعلمين انذاك، فسيفساء آدمية تتقاطع خيوطها لونا ونوعا، لهجة ولكنة وانتماء، لافرق في الأهمية بين هذه القطع، لأنها تتلاءم وتتواءم، جميعها تشكلت فألفت تلك اللوحة الجميلة والرائعة المتعددة الالوان لمؤسستنا التعليمية زمن الستينيات، كان اختلافنا ثروة، وقيمة مضافة ترتفع في سلم القيم من حول الى آخر درجات. كانت قطع الفسيفساء تاتي من أرجاء وضواحي المدينة، من قلبها وكبدها ومن اقاصيها (الكانتينا، تاصومعت، تاوريرت، فضركوم، تابونت…) أحياء ودواوير تتفاوت عمقا ومسافة، آليات المجيء منها او الذهاب اليها كانت الأرجل والدراجة والبهيمة، من أقراننا من كان يسافر الى المدرسة مسافات.. بالجوارب او بدونها، كل كان ينتعل حذاءه او حلومته، يرتدي معطفا صوفيا او جلبابا تقليديا، يقبل ويدبر وحيدا او منفردا، مع أخته او اخيه، رفقة جار او زميل…
في الشتاء، كان البرد القارس يمارس علينا جبروته وسطوته، في كل الصباحات كنا نخرج من اوكارنا ملفوفين باردية صوفية سميكة، رؤوسنا مغلفة وايدينا تحتمي بالقفازات والجيوب.. ورغم ذلك فالاجواء الباردة تبعث فيك احساسا ثلجيا يتسرب الى مسام جزيئات اعضائك، بل يسري في عمودك الفقري حتى النخاع، انذاك تشعر كما لو أنك ستتجمد.. ولنخفف عنا ذلك، كنا نسرع الخطى نهرول في الطريق الى أن نصل دكان الاسفنجي “مولاي احمد” فيتوقف بعضنا عنده ليتذوق صفره العجيني اللذيذ الساخن، اما البعض الآخر، فكان يواصل طريقه انفة وكبرياء، بادعاء الشبع وارجاء أكل الاسفنج الى الغد، او الى ما بعده.. كنا جميعنا نكره أصفار معلمينا، عاشقين لأصفار “الأحمدي” المقرمشة المنعشة، وعلى الرغم من ذلك فاجسادنا الصغيرة في مثل تلك الطقوس شبه القارية، لم تكن مكتفية بحراريات الفطور والاسفنج، فسعينا وبحثنا لها عن مكمل تمثل في حرارة النار التي أعادت لابداننا التوازن، كنا نسرع الخطى فنصل قبل الوقت الى المدرسة، وأمام رتاجها الذي كان آنذاك مفتوحا على الشارع الرئيس محمد الخامس، وفي الجهة المقابلة قرب الكنيسة، كنا نتفرق تلقائيا مشكلين حلقات عشوائية بعد أن نجمع اليابس من القش والأغصان، فنوقد النار مستمتعين بلظاها في فضاء مشجر محاط بالقصب الأخضر، تفوح منه رائحة التراب البليل بالندى وعبير أوراق شجر الطرف والنخيل والزيتون والكالبتوس. كان بعضنا يريد أحيانا اللعب بالنار فيهيج ما اوقدناه بسعف النخيل الجاف لتتشتت الحلقة شتاتا…
يدق الجرس فندخل الساحة بنظام وهدوء، نصطف مثنى مثنى، يلتحق كل صف بقاعته رفقة مدرسه، بعد الدرس وانتهاء الحصة.. نغادر القاعة الى الساحة، الخروج مختلف عن الدخول، الاصوات صاخبة والحركة زائدة.. كل منا يبحث عن رفيقه او رفاقه.. هكذا تعودنا والفنا منذ التحاقنا بالمؤسسة.. وحينما يكون الجو معتدلا، تصبح طريقنا الى ديارنا فرصة سانحة للترفيه عن أنفسنا بالهدر والكلام الأجوف والبديء أحيانا، كغيرنا كنا نتسلى بالنواذر والنكت والمستملحات.. بعضنا يحكي ويتكلم أكثر، لأن اقرانه أقل ثرثرة، احيانا يقول احدنا أي شيء وحول أي شيء لنسترسل في الضحك، أو على الأقل نتظاهربالضحك، بل نضحك على الذي لم يضحك… كنا نمزح ونستمتع، نتمنى ان تطول رحلة الرفقة، خصوصا أننا لم نكن زملاء نفس الفصل أو المستوى… لقطات ومشاهد تتراءى حتى اليوم أمام اعيننا معلقة كمذهبات عصر الجاهلية، مبدعوها زملاء وأقران موهوبون في صنع النكتة وابداع وضعيات ساخرة، وعرضها بطريقة بديعة تجمع بين التشويق والضحك والإثارة، ومن هؤلاء “قادر بن دروع” زميل وصديق يستحيل ان يسدل النسيان غباره على الذكريات معه، علم من اعلام الطفولة ومشاهيرالمدينة، حضوره ذو قيمة في كل لقاء ووليمة.. “قادر” اسم على مسمى، لانه بالفعل قادر يستطيع أن يرسم البشاشة على الأديم العبوس، ويحول البسمات الى قهقهات ، كنا نعتبره من فطاحلة الدعابة والنكت والمستملحات في مدرستنا المركزية انذاك. ومن الغريب ان الصدف اختارته رغم انفه ان يكون احيانا من شخصيات نكته ومسخراته، مما جعل “قادر بن دروع” قادرا أكثر على عرض المستملحة وتشخيص النكتة وذلك بشكل طريف ورائع، ومن مستملحاته الخالدة والمتداولة ايام زمان، ان أباه السيد “دروع” رحمه الله، كان في إجازة لم تكن موازية للعطلة الدراسية، وبما ان “قادر” صبي صغير، كان قد التحق قبل أقل من شهرين بالمستوى الاول ابتدائي، فقد ارتاى الأب اصطحاب ابنه في سفر دام اكثر من اسبوعين، فكان غياب صاحبنا غير المنتظر مفاجئا للمعلم، لانه كان من اكثر المواظبين على الحضور في المدرسة، وبما ان العرف والواجب يفرض على المدرس ضبط الحاضرين والغائبين في السجل الخاص بذلك، فقد كان كلما ذكر اسم “قادر” في بداية كل حصة، قال التلاميذ: انه غائب يا استاذ، وهكذا مرت ايام وتكررت نفس ردود الفعل.. رجعت اسرة “قادر” فجاء الى المدرسة، فدخل القاعة وجلس في مقعده دون اخبار المعلم، بدأت الحصة كالعادة بالمناداة، كان اسم صاحبنا في الترتيب وسط اللائحة، وحين وصل المدرس الى اسمه قال:
-“قادر”غائب دائما؟
فأجابه صاحبنا بسرعة واقفا :
-لا،لا…راه جيت ااستاذ. !!!!
فرد الاستاذ عليه :
-آ اا..جتي. ..او علاش ما جتي نبوسو ليك اديك؟!!
مباشرة وفي تلك اللحظة قام “قادر” ببراءته وعفويته الطفوليتين من مقعده وتوجه نحو المكتب مادا يده ليقبلها الاستاذ، انتفض الاخير في انفعال قائلا وهو يبصق على يد “قادر”:
-تفو، تفو على باباك،…سير تجلس الحمار. !!!!)
هذه مستملحة واحدة من مستملحات “قادر بن دروع” العديدة والتي كان قادر بارعا في تشخيصها وتقريبها بالجسد والصوت متمكنا من اعادة المواقف بشكل هزلي… اشكره بالمناسبة وفي الوقت نفسه اعتذر له ولقراء هذا النص عن تقصيري وعجزي عن اعطاء نواذره ما تستحقه من الدقة في التعبيروالتصوير.
5- شيطنة طفولية على ضفاف درعة
عصية ذكرياتنا وأيامها عن كل ضياع او نسيان، كان لهيبها يسطو علينا كعواصف نار، الشتاء كان قاسيا، في مساءاته عجاج يعمي الأبصار، رياحه اطلسية قارسة هوجاء مخيفة كعواء الذئاب، نخشاها فنلج بيوتاتنا نحن الاطفال تاركين وراءنا مبتدأ بدون خبر، هدرا أو كلاما فارغا بسيطا لم تكتمل دلالاته ومعانيه.. في هذا الفصل كنا نحلم أكثر مما نحيى أحداثه، فالدجى فيه يهيمن على وهج البياض، وحتى إن كان الجو مائلا الى الاعتدال، فإننا نعرف أن الأحوال يمكن أن تنقلب في أي آن، وأحيانا بأشكال ملتبسة ومفاجئة، فحتى الفصول قد تاتي غير متعاقبة.. لذلك كنا نحاول أن نصنع اللحظة ونعيشها في نفس الوقت، نستغلها حتى لا تذهب سدى مع العواصف، أو تتبخر مع الحر اللافح… باختصار كانت متعتنا لحظية، لكن حلمنا كان كبيرا كخلاء ورزازات الساكنة جدا والمسكونة قليلا… آنذاك وقبل بناء سد المنصور، كانت المدينة محاطة بحقول رحبة غناء، وبمروج ترتوي من مجاري واد درعة الطويل، فأنت تراه من بعيد يشق طريقه بين واحات من شجر وجريد، فوق تلالها مداشر ودواوير من قصب وطين، فاين “تلماسلة” و”حبيب” و”غاليل” و”ايت بودلال” و”تدرميشت” …؟
يسافر الشتاء، فيقبل فصل الربيع، وقتئد تبدأ الطبيعة في الكشف عن زينتها، تورق الأشجار.. وتخرج غلالها، وترجع الأطيار من رحلتها، تثمر الارض وتصفو السماء، فتحلو الحياة باللقاءات وكثرة المباريات بين فرق الاحياء، جلسات للضحك والمستملحات، وأيضا للغيبة وللنميمة لقاءات، تتعدد وتزداد في الصيف والمساءات والعطل درجات… كان لفصل الصيف عند الأطفال واليانعين طعم خاص، فقد كنا مسكونين بالرحلة والكرة والصيد والعوم في الواد، عاشقين تسلق التلال واكتشاف المغارات في الشعاب… فلكل حارة أو مدشر، سواء في ” تاوريرت”، “تابونت”، “تاصومعت”،”فضراكوم” أو “السونتر”… عصابة أو اكثر.. مجموعات تتشكل بعفوية وتلقائية، افرادها يخططون لمباراة أو مغامرة. كانت الخطط شيطانية، لكنها بريئة وطفولية، رائعة شفافة بدون مساحيق، فأفعالنا ومغامراتنا كانت عند بعض الكبار عادية، وعند الآخرين “بسالة” وسوء تربية، أما عندنا فهي بديهية ووجودية، هي إثبات للذات بين الأقران والأنداد.
نبدأ الخطة فنستيقظ باكرا منطلقين عابرين درعة الى الضفة الاخرى ومعنا كلبنا “درواس” الذي كان يصاحبنا في كل مغامراتنا، نتوغل عميقا في الحقول، كنا نعتقد أنها ممتدة بلا حدود، نستمتع بفضاءاتها، ونكتشف خصوصيات موجوداتها وكائناتها: حشرات وزواحف، طيور ونباتات وزهور، ورديات وغير ورديات من عالم الأشجار. لقد كنا “مشائي” زماننا واقراننا، نتفسح في المروج نتسلق بأبصارنا آفاقها، تمور تمتص ثدي النخيل المدلى وهي في عناق مع السعف وخيوط الضوء في الظلال، وتحت اقدام النخل، هناك التوت والخوخ والمشمش، وهنالك الليم والرمان والكرز والتفاح… اشجار نشرئب إليها بأعناقنا الصغيرة، وهي مثقلة بغلال يانعة تجذبنا الى قطفها من بعيد برائحتها، كنا نرنو اليها في لهفة جامحة للثمها وتذوق حلاوتها، لأكلها بل لبلعها، نسرع لخوض المغامرة فاللعاب قد غزا غمار أفواهنا، ومسافة الرحلة أفرغت المعدة والأمعاء، والجوع وصل الى أقصى مداه… آنذاك نشرع في التسلل بتقدم أحدنا لتفقد الأحوال، ثم يتبعه الآخرون، دائما بهدوء عجيب.. نتخابر على اصحاب وحراس البساتين في تفاعل بالإشارة والصمت والعيون، وتارة بالصفير، وقائع علمتنا أساسيات لغة الجسد وفن الميم، كنا في كل اكتساح يقظين حذرين، لكن احيانا يضبط أحدنا متلبسا فيكون عاقبه الضرب والصفع والخبط وكانوا رغم ذلك متسامحين، لهذا سرعان ما تعود شيطنتنا الى عادتها، غدا أو بعد حين، اما آباؤنا المبجلون وغير العالمين بأفعالنا، فنصيبهم السب والشتم في كل خرجة من خرجاتنا. مغامراتنا لم تكن متشابهة، كل واحدة لها خصوصيتها حسب الزمان والمكان ومزاج الأفراد المتفاعلة والفاعلة في مسار الحدث أو الأحداث، قد نقتحم البستان بهدوء حين نكون واثقين أن لا أحد سينغص علينا استمتاعنا، وإشباع مبتغانا، آنذاك نجني الفاكهة اليانعة برفق عجيب، كنا نخاف ازعاجها أو ايداءها قبل أن تصل الى افواهنا المملوءة بمياه التلذذ والتشهي… لكننا احيانا نتصرف بهمجية وغوغائية، نكون كالجراد، نأتي على الباكور والناضج من الغلال بنهم غريب كبطن شره رغيب، يبلع ويستوعب كل شيء وأي شيء… ومن أكثر الذين تضرروا من غزو واكتساح الشياطين لبساتينهم “دا حوسا” و”دا حبيض” وهذا الأخير، كان خماسا ومسؤولا عن كل حقول “الحاج الغفاري” رحمهما الله… رجل داكن البشرة متوسط القامة في عقده الخامس، معتاد على وضع قبعة من سعف النخيل “تارزة” صوته جهوري، من بعيد كنا نسمع حواراته مع مساعديه، ربما لبعده عنهم وتواجدهم في فضاء مفتوح، غير أن سبه وشتمه لنا لا يكون الا بالمازيغية المصحوب بقدفنا الطوب والحجارة، لأبعادنا عن حقوله.
حين تبدأ درجة المحرار في الارتفاع ، ويشتد لفح الصيف في ورزازات ، فلا ملجأ لأطفالها ويانعيها إلا ضفة واد درعة السخية المعطاء، كانت الفضاء الأوحد لكل فسحة أو سباحة أو ترفيه في هذا الفصل القاسي، لقد عوضت “كلتات”(برك) النهر خصاصهم وحرمانهم، كانت في رأيهم صالحة للعوم والصيد بل للغوص، فكانت كل جماعة تحاول أن تسبح في البركة الأقرب والأنسب قامة وسنا، فعرفت بعضها بسبب كبرها وعمقها الذي تجاوز أحيانا المترين حيث كان سباحوها غالبا ما يكونون من اليافعين الكبار، ومن أشهرها “أوقجي نوداي”(حفرة اليهودي) بمدشر “تلماسلة” و”اوقجي نحمو (حفرة حمو). وايضا “الكبيون” قرب حي “تاصومعت” حفر ماء لا تقبل التحدي والعناد، فكل مغامرة ينبغي ألا تتجاوز الحدود، فالغطس والعوم فيها خطير، ومن أبطال هذا المكان (زاكي/بوقرن/زاكور…) كانوا من أمهر السباحين والغواصين، يصطادون الأسماك وافاعي الماء من أعماق ضاية / كلتة “الكابيون” حقيقة كانوا شجعان زماننا الجميل، فركوب الرؤوس خطير والغوص في الحفر صعب كثير. كانت طريقة السباحة في واد درعة مختلفة عما هو معروف في الاولمبياد، عرفت باسم “الدردوز” نوع ناجع في العوم ضد التيار، طريقة شبيهة بعوم الكلب تعلمناها قبل تعلم غيرها بمسبح “لاميكال”(الودية) الذي كان ناديا لفرنسيي الاستعمار. كان من العادي وأنت تسير وضفة االنهر، ان ترى أطفالا يسبحون وبعضهم أو كلهم بدون ساتر أو ثبان يتمرغون في رمل خشن مخلوط بالحصى والثرى، مستمتعين ببرودة الماء، ملتحفين أشعة الشمس متأملين زرقة السماء. ومن الطريف وأيضا من البديهي ان العوم كان يفرغ طاقاتنا وبطوننا فكنا نصعد حافة الواد لنتبستن، نأكل ما يؤكل وما لا يؤكل، يانعا أو أخضر، فقد التهمنا الفول بقشوره والجزر بكل أنواعه والبطيخ وحتى البصل. كنا نهوى البحر فكان العوم في واد درعة متعة، حمام شمس وتطهير قمر، كان سفرا بالمخيلة الى مخيم “تاغزوت” ويم “الجديدة” أيام كان التخييم نصف شهر بالتمام والكمال، قبل نهج التقفير وتقويم الهيكل…
كان فصلا الربيع والصيف فرصة لممارسة هواية صيد الأطيار الآتية لاخذ الراحة والاستمتاع بدفء فضاء وصفاء حاضنة الشعاب ورزازات، المفعم بهدوء وسكون لا تخترقه إلا أصوات النقيق والزرزرة والحفيف والشقشقة والزقزقة والهديل والخرير… عالم تحتضنه الحقول الغناء، فقد عشق الكثير منا صيد الطيور في رحابه، فتتبعنا مواطنها ومسارحها، وعرفنا ما يروقها من دود وحشرات، ومارسنا تقنيات نصب الشراك ووضع الطعم… ومن المعلوم أن المفضل منها، لم يكن الزرزور او الخطاف، وإنما الهدهد والعصفور، وقد اشتهر من بين الأقران لما له من دراية ومهارة وحظ في هذا المجال: “بوكطاية” من “لابيطا” والذي أتى من نواحي “أولوز” بتقنيات فريدة، و”ملالو الصغير” من حي “موبيل” صاحب الصفير الجذيب للطير والعصافير. كان الصيد بكل انواعه بالنسبة لنا اختبارا للذات والوجود، واكتسابا للتحمل والصبر، وتمرينا لتقوية الارادة ومواجهة الصعاب، إضافة إلى انه سفر رائع في عالم دواخلنا، كنا أثناء الصيد نتبستن وفي الآن نفسه نتأمل.. غير أن لقاءاتنا كافراد أو مجموعات في فضاءات درعة الورزازية، رغم أنها تنتهي بالود والتفاهم والاحترام، الا أنها غالبا ما تبدأ بخصام وشجار وعراك، واحيانا بالايد والعصي والرجم بالحجارة مع الشتم والسب خصوصا اذا كان الأنداد من أصحاب الراس الصلد العنيد..
6- أقران “كانتينة”
زمان رفوف الذكرى والذاكرة، رفوف مملوء كثير منها بمحفوظات الطفولة، فإن تفحصتها وجدتها جميلة ومثيرة، بل رائعة بمستملحاتها ووقائعها وأحداثها، لأنها مغلفة بالسداجة، مفعمة بالبساطة والبراءة، مما يجعل وقائع عادية تكتسب عمقا ودلالات قد تكون لاشعورية. ففي زمن الستينات كان البعض منا يعتقد أن مقر عمالة اي مدينة أو إقليم لا بد أن يكون متواجدا في أعلى مكان، فهل يرجع سبب هذا الإعتقاد إلى الخوف من السلطة والرهبة من ممثليها؟!! أم راجع لسبب آخر…
كانت العمالة زمن طفولتنا الأولى فضاء مجهولا رغم أن بعض زملائنا كان يسكن حيها الصغير جدا، وحين اكتشفناها أعجبنا بموقعها البانورامي، حيث تتراءى لك المدينة بسيطة في تواضع لا يخلو من جمالية، شارع محمد الخامس يشقها بشكل ملتو، وأحياء مشتتة تدنو منه بخجل وحشمة بواسطة ممرات وطرق مهترئة غير إسفلتية، وتحت أقدام العمالة وفي نفس الشارع المذكور، تصطف بعض المحلات التجارية والخدماتية، غير أن المركز والمعروف ب”الكانتينة” والذي كان يقصده الناس من كل أحياء المدينة وضواحيها بل من باقي جهات إقليم ورزازات، كان ضروريا للتواصل وللتبضع وقضاء بعض المآرب الإدارية والتفسح أحيانا، فأمام حانة وفندق “مدام بارا” (Parent) هناك اليهودي”زوهار” (Zohar) المصور بالطريقة القديمة، وكان بجواره اليهودي”إسحاق”(Isaac) بائع الاثواب والملابس، وغير بعيد عنه اليوناني “مسيو انطونيو” (Antoniou) المصور بالطريقة الحديثة، أما الفرن والمخبزة فعند السوسي الذي كان عقاره يضم أيضا مقر الدرك الملكي (قبل بناء مركبهم الجديد) الذي تحول إلى”فندق” تقليدي ومقهي “هوبا” بائع (الحريرة) ومحلات إحداها للفرنسي”جوزف غو” (Joseph Roux) مصلح المذياع، أما الحلاقة فهناك “بو ايدية” البودلالي وصالون “اكادو”(Aguado) وفي قفا ورشة “مسيو بيرجي” (Berger) نصبت خيام لبيع الخضر والفواكه الآتية خصوصا من مراكش او سكورة وايت بودلال، كان ذلك قبل بناء “المارشي” أي السوق المركزي، وفي نفس الزقاق الموازي للشارع، وبالقرب من منزل”آل جناح” هناك ما يشبه كنيس مخصص للتعبد وتعليم صغار اليهود، أما الفنادق والمقاهي والحانات فقد احتكرها النصارى وأبرزهم “ديمتري” (Dimitri) وأخوه “كريستوف” (Christophe) وابنه بالتبني “نيني” (Nini)، كان ديمتري محتكرا توزيع كل شيء في المنطقة من التبغ إلى المشروبات الغازية والكحولية… غير أن “الفندق” التقليدي الأكثر شهرة في المدينة لصاحبه الحاج “الغفاري” والذي كان يسيره ويسهر على راحة رواده “البريق”، فقد كان فندقا بسيطا بغرف وخوابي ماء وحصير، بأفران فحم وطناجير وبراريد.. تدخله فتلامس خياشيمك روائح القهوة “والكيف” والشاي والطبيخ.. كل زبون حر في اختيار توابله وخضره في كل حين.. وينبغي ألا ننسى مولاي احمد بائع الاسفنج والحليب، والشركي صاحب الطاحونة قبالة “لحسن السكليس” واذا تدرجت في الطريق المقابلة له والمؤدية إلى إعدادية ولي العهد، ومحطة الأرصاد الجوية و”الديور الجداد”، في طريقك إلى هناك ستجد مقهي “مولاي بوتغيولت” (صاحب الحمارة)، ومقبرة النصارى قبل إزالتها ونقل بقايا عظام أمواتها خارج المدينة، وأعلاها ساحة ملحقة بالسوق المركزي فيما بعد.
كنا بعد أن أصبحنا يافعين، نجتمع نحن الأقران فندخل حمام الأحباس في رأس كل سنة ميلادية لعدة أعوام، نتحمحم ونتفكه ويجرب كل منا صوته الرخيم، كانت أصواتنا كورالا فوضويا يستفز المستحمين الآخرين، وحين تصل الساعة الثانية عشرة بالتقدير، نقوم بمعانقة بعضنا متبادلين التهاني احتفاء بالعام الجديد وبجسم نظيف ومن الأحداث المرتبطة بهذا المكان، إننا في إحدى الأيام كنا واقفين قرب بابي الحمام و الفرن، فاذا برجل يأتي، عرفنا فيما بعد أنه السيد “باركي” فبدأ يحدثنا عن الفراغ الروحي لدى الإنسان، وعن زوال الدنيا، وأهمية العبادة في نقاء الروح والذات… بلباقة وأدب، ثم التمس منا مصاحبته لحضور لقاء مع أناس قال بأننا نعرفهم أو سنتعرف عليهم وبعون المعين القدير، حضرنا اللقاء وسمعنا الأمداح ورأينا من يحرك رأسه ومن “يجدب” ومن يفقد وعيه… غير أننا لم نفهم المقصود ب” هو هو..هو هو..” (بضم الهاء وفتح أو تسكين الواو) ومن هو الشيخ العباس.. وبعد احتساء الشاي، انتهت الليلة بوليمة، وعرفنا أننا كنا في منزل أحد مريدي الطريقة البودشيشية ومؤسسيها في ورزازات.
هذا وقد ذكرني حمام وفرن الأحباس بالمكان قبل بنائهما، كان عبارة عن ساحة بها حفرة عظيمة/مزبلة يلقى بها ما فسد لدى بائعي سوق الخيام المشار اليه أعلاه، وفضلات ساكني ما كان يعرف بالخيرية، حيث كانت أسر مستقرة في غرف لم أعرف عنها أي تفصيل، كانت هذه الحفرة موطنا للحشرات والعقارب وخصوصا الجردان، فاعتاد بعض الأقران اصطيادها وصب البنزين عليها ثم إشعال النار فيها، وكان زعيم هذه العصابة هو السعداوي “ولد البوليسي”الملقب ب”بوقال” وأنت تسير في اتجاه القباضة ومحطة حافلات بنحمو ستجد مقهى “مدام ماريوس”(Marios) التي رحلت عنها صاحبتها تاركة إياها بدون من يرعاها ويحرسها،وقد كنا ندخلها من نافذة خلفية، فنجلس على كراسيها مستمتعين بعلب عصير المغامرة وقنينات المشروبات الغازية الخاصة بتحقيق الذات، والتي تركت يتيمة في د المخزن والرفوف. إن الغريب في الأمر أن علاقتنا بالقنينات تقودنا الى سرقاتنا لها من فندق “الجيت” المصنف رقم واحد والفريد في ورزازات، فقد كنا نتسلل من قفاه والخوف يجتاح كياناتنا..!! قد ننحني ونختبئ بل قد نزحف بهدوء وصمت حتى لا يتنبه الحراس إلى وجودنا، وحتى نصل إلى عزيزاتنا القنينات، نملؤها في كيس برفق، لنتسلل من جديد نحو الخارج.. كم كانت فرحتنا عظيمة حين نصل إلى متجر “ديمتري” فنبيع ما سال بسببه عرقنا، متجهين نحو دكان اليهودي “موشي” (Moché). لاقتناء أقراص محلية “الفانيد” و”مادلين” (تلك الكيكات المعبأة في الورق الشفاف) او بسكوتات العلم، بلونها الأحمر والشهي. ليسيل لعابنا في هذه المرة وليس عرقنا.
من هنا وبعيدا عن غطرسة القيم، وما ينبغي أن نكون عليه من أخلاق وشيم، فإن الواقع يفرض عليك لتندمج أن تكون مثل ومع أقرانك، مبعدا عنك اي تردد أو حرج، فتقوم بما يقومون، وتغوص مع الغواصين، في مغامرات لاتنتهي، وأنت تعرف مسبقا بأنك ستعاقب من طرف والديك أو يقبض عليك لتصفع وتضرب وتسحل.. عن كل خطوة تخطوها في فضاء هذه السلوكات” المشينة”. ويمكن القول أيضا، ونحن هنا بصدد تناول ماضينا في ورزازات كتابة، أننا عندما نمارس تشكيل الكلمات وابراز المعاني والدلالات، بشكل صادق وواقعي، فلا بد من نزع رهبة الحقيقة عمن يكتب وأيضا عمن يقرأ، والانسلاخ عن طابوهاتنا، لإعادة النظر في مفاهيمنا ورؤيتنا للعالم، وبالتالي استفادة أبنائنا من أخطائنا، لذلك أقول بأن المغارة التي كانت في طريق” الجيت” وباقي مغارات شعاب ورزازات، أمكنة تمارس فيها طقوس”جلد الجلد” وليس سلخ الجلد، كانت هذه العادة الطفولية بداية كل الأحلام، سفرا في عوالم الوصال، وصال الذات بالموضوع، تمثلا لعلاقة شهرزاد وشهريار، كان عملية تحرر من القيود بوضع الذات بين بين، فقد كان الطقس تمردا على محيط يعتبر فصل النوعين من ركائز الاخلاق والدين.
7- عوالم المحاكاة وفسحة الخيال
سبحت في الحلقات السابقة سباحة آمنة في بحيرة الذاكرة، فقد كنت على علم بحدود ضفافها وبطبيعة خلجانها، غير أنني وجدت نفسي فجأة في بحر الماضي وقد تاهت بي سفينتي بين أمواج عاتية من الذكريات، كانت كثيفة لم أستطع في خضمها تحديد واختيار الموجة القادرة على دفعي إلى المرفئ الكفيل بتسهيل وتيسير ما خططته من كلمات متواضعة في السابق عن حاضنة التلال، كان هدفي أن تكون مقبولة ومنسجمة مع تيارالذكريات. وهكذا قررت أن يكون مرفئي الذي سأبحر منه من جديد، هو فندق”الجيت” الفاخر بتصنيف الفترة، والقابع فوق برجه المشرف على ضريح “سيدي ع.الرحمان اولحاج” بمقبرته العتيقة والصغيرة، والمطل أيضا على مجموعة من الإدارات الرسمية المصفوفة على واجهتي الشارع الرئيس “محمد الخامس”.
كانت لهذا الفندق مزبلة تبعد عنه قليلا، تقع بين أحضان تلال تحميها من شراسة عيون السياح، لم تعرف كباقي المزابل نباشين ولا قطيع ماشية يرعاها.. فكنا نحن الأطفال نقصدها، غير أن الغربان كانت دائما تسبقنا معتقدة أننا نزاحمها في كل ما فضل من طعام ملقى في المزبلة، لقد كانت غربانا مكتنزة، وربما أكثر لحما وشحما من أمثالها في العالم، أما نحن الاطفال، فقد كنا نحب كل الطيور من عصافير وزرازير وهنادل.. إلا الغربان التي كان كرهنا لها شديدا ودفينا، كنا نعتقد أنها مصدر شؤم بليغ لنا ولأسرنا ولمدينتنا بل للعالم، فقد كنا نؤمن بالتطير أكثر من اعتقتادنا بالسحر والعين، غير أن أقصى ما كان باستطاعتنا القيام به ضدها، هو رجمها بالحجارة مستعملين يدينا تارة والمقلاع المعروف عندنا ب”إلدي” ورغم ذلك لم نحقق يوما هدفنا، كانت أذكى منا تتحدانا بنعيقها والتحليق فوق هاماتنا، وقد كنا كعادتنا نبحث في النفايات عن كل ما يمكن توظيفه في تلك المعسكرات التي اقمناها، غير أن أهم ما كنا نتنافس في جمعه هو غلاقات بعض قنينات الكحول والحاملة لنجوم أو ما شابهها والتي وضعناها على أكتافنا ووشينا بها صدورنا محاكاة لما كنا نشاهده في أفلام رعاة البقر الأمريكيين بقاعة الشبيبة والرياضة “لاجونيس”، كنا نقلدهم فأقمنا قواعدنا على شاكلتنا وحسب إمكانياتنا البسيطة وأثتناها بما انتقيناه من مزبلتنا، كما أن طبيعة وتضاريس ورزازات تنبهنا إلى أنها شبيهة ب”تكساس” و”نيفادا” الأمريكيتن بل هي أحسن. كانت خيولنا من قصب، عرباتنا أسلاك وعلب تصبير، وقبعاتنا من ورق مقوى.. أما حدود معسكرنا فخطوط من حجارة وطين، أسوارها عالية كقلعة في مخيلتنا، يمنع قانوننا الطفولي تجاوزها أو تخطيها، فالدخول والخروج من الواجب أن يكون من الرتاج، كنا نتخيله من أعظم الأبواب.
كانت معاركنا بعد توزيع الأدوار تنتقل خارج محيط المعسكر إلى بعض الخنادق التي حفرت أيام حرب الرمال بين المغرب والجزائر سنة 1963 وأهملت ولم تردم، ذكريات عاشتها ورزازات خلال هذه الفترة الحرجة من تاريخ المغرب، دبابات وعربات محملة بالمدافع، شاحنات وحافلات عسكرية ، جنود بلباس المعركة.. كانت المدينة مركز توقف للاستراحة قبل التوجه نحو “حاسي بيضا” وكان الجنود يتفضلون علينا ببعض علب السمك والخبز والجبن، لم نكن على علم بما يقع، لكن حدث أن كنا في الساحة قبالة وكالة البريد والتلفون والتلغراف، فمرت شاحنة عظيمة حاملة لطائرة نقل عسكرية، قيل أنها جزائرية اسقطها المغاربة في إحدى مناطق “قصرالسوق” -الراشيدية حاليا- كان ذلك المرور حدثا كبيرا، لأننا آنذاك وعينا أنها الحرب، والذي أسقط مثل هذه الطائرة ماذا يمكن أن يقع إذا ضرب الإنسان، غير أننا تتبعنا بعدها الحروب مستعينين بالمذياع: حربي العرب ضد إسرائيل سنة 1967 وسنة 1973، وبعد هذه السنة بعامين عشنا حدث المسيرة الخضراء وشاهدنا متطوعي إقليم “الراشيدية” متجهين إلى “أغادير”.. إضافة إلى حرب “الفتنام” وكيف هزم الأمريكيون من قبل رفاق “هوشي منه”..
لم تكن في ورزازات لا تلفزة ولا سينما ولا هم يحزنون، أما الراديو فقد ساهم في تقوية وتوسيع ملكة خيال أبناء حاضنة الشعاب، فقد كانوا ينامون على سهراته ويصبحون على نغماته، متتبعين برامجه، ومن ذكرياتنا أن إذاعة ملحمة “الأزلية” في بداية السبعينيات كان الكل يتابع حلقاتها بشوق واهتمام، حيث تخلو الأزقة والمقاهي ويجتمع أفراد الأسرة أو الأصدقاء وأمامهم الراديو، طالقين العنان لمخيلتهم وهم يسمعون أصوات: “عاقسة” و”قمرية” و”السقرديوس” و”السقديس” و”مبسط”… كانت كل حلقة تبدأ بصوت الملك سيف بن دي يزن (محمد حسن الجندي) قائلا: «رموني أهلي في الخلا، وسموني وحش الفلا، وإسمي سيف بن دي يزن». لقد استمتع الجميع من الكبار حتى الصغار، بهذه الحكايات المقتبسة من كتاب “ألف ليلة وليلة” خصوصا وأنها كانت شبه (مدرجة)، كان اهتمامنا بها -نحن الأطفال- استمرارية لذلك الوله بحكي سي عبد الله السرغيني الرائع وسي عمر الفيلالي المشوق، في “حلقات” سوق الأحد الأسبوعي أو في ساحة المارشي ب”الكانتية” المحادية لمقبرة النصارى، أعجبنا بطريقة سردهما وتشخيصهما ل “العنترية” و”الأزلية” وحكايات “شهرزاد” ل “شهريار” في “ألف ليلة وليلة”، كان كثير من أبناء ورزازات يستغل زيارته ل”مراكش” لسماع الحكواتيين ب”جامع الفنا”والتجوال في “حلقاتها” ذات الغرائب والعجائب، وقد سجلت شخصيا إعجابي بهذا الفضاء في قصيدة نثرية بعنوان “جامع الفنا شمس لن تفنى”.
وعلى ذكر السوق الأسبوعي فقد كان يوم الأحد عندنا نحن أطفال ورزازات موزعا بين الرياضة -مساء- في ملعب الجيش مؤطرين بأفضل وأوفى المربين والمدربين أذكر منهم سي خلوقي وسي بوجمعة أخزام، أما الصباح فقد كان مخصصا أساسا للتجوال في السوق، كان بالنسبة لنا احتفالا تلتقي فيه شيطنتنا ببراءتنا، مهرجانا تتفتح فيه بصائرنا وتتفسخ مكبوتاتنا وتتفسح أبصارنا في ألوان الخضر والملابس والسلع وسحنات الوجوه، بل كنا نستمتع بروائح التوابل والفواكه اليانعة المخلوطة بما تبعثه مسام كل كائنات وموجودات هذا السوق، خصوصا في فصلي الربيع والصيف، كان هذا الفضاء في ظل هذه الأجواء فرصة أسبوعية للتخفيف من الروتين اليومي واستراحة للعيون من اللون الأغبر النمطي، بل هو استراحة للآذن من ذلك السكون القاسي والرائع أيضا الذي يدب في شرايين حاضنة التلال وضواحيها. كان البعض من الأقران -بعد تجوالهم العشوائي- يدخلون في مغامرة ألعاب الحظ -إن كان جيب احدهم منقودا- غير أن اليافعين منا لا يغامرون، لأنهم يعرفون أن الخسارة نهايتهم، وعادة ما تنتهي الفسحة بالصعود والجلوس بنظام وانتظام على حائط مطل على مكان ايداع دواب السوق من بغال وحمير، كان هذا الفضاء مثيرا لأننا كنا نتلصص وننتهك حميمية هذه البهائم العجماء، غير أن عناقها كانت له دلالات ممتدة في كياناتنا العميقة واللاشعورية، في مجتمع شبه محافظ قامع للرغبات.
الغريب أن الآباء آنذاك، رغم بساطة تعلمهم، إلا أنهم كانوا حريصين على تعلم أبنائهم، وقد سعى مثلا أبي وبتنسيق مع ناظر الاحباس سي “الحموي” رحمهما الله إلى دعوة الفقيه (نسيت اسمه) من نواحي زاكورة، لتحفيظنا القرآن الكريم، رغم أننا التحقنا بالمدرسة، كان مقر الكتاب في إحدى الدكاكين الطينية المتواجدة ما بين فندق لحسن “السيكليس” ومسجد الصومال، والتي هدمت وبنيت مكانها ادارة الاحباس، ثم انتقلنا إلى مقر الكتاب الجديد بعد إعادة إصلاح وترميم المسجد، كنا مختلطين بنين وبنات، لم يكن الفقيه رحمه الله قاسيا ولم يكن متسامحا، كل ما يؤثت فضاء الكتاب حصير من دوم ومكان توضع فيه الألواح وخابية ماء، أما مجلس الفقيه فبساط منسوج من صوف.